ستّة آلاف كيلومتر هي المسافة التي تفصل بين مدينتيْ المعلّمتيْن ريبيكا هارديستي ومنال ربيع؛ ولكنّهما استطاعتا الاجتماع في غرفةِ صفّ واحدة في قرية بيت إجزا غرب القدس مطلع نيسان؛ وذلك يعود لبرنامج التبادل الذي تنظّمه مؤسّسة عبد المحسن القطّان بين مدرسة وودرو (Woodrow) البريطانيّة ورياض أطفال فلسطينيّة.
صدفة أم دراية؟
سبق وأنْ زارتْ ربيع مدرسة وودرو العام 2013؛ لتجد هناك أنّها والمعلّمة البريطانيّة هارديستي التي قضتْ فترة التبادل في صفّها، تعملان كلتاهما على بناء فريقِ إنقاذ من الأطفال؛ وذلك من خلال تطبيق نهج "عباءة الخبير".
قالت ربيع إنّها تفاجأت حينها بأنّهما اختارتا الفكرة نفسها رغم تباعدهما جغرافياً، وإنّها لاحظتْ تشابهاً كبيراً في التطبيق، وبينما أكّدت هارديستي على كونها صدفة؛ إلّا أنّها أرجعت تشارك الفكرة إلى فهم كلتيهما الجيّد لنهج "عباءة الخبير"التربويّ؛ الذي يتولّى فيه الأطفال مسؤوليّة إدارة مشروع مُفترَض يشمل مناحي عدّة من مجالات المنهاج؛ ففريق الإنقاذ هو فكرة واسعة وسيطرَح العملُ ضمنه مواضيع شاملة.
فريق المهندسين: الورشة
بعد مرور ثلاثة أعوام، بدايةَ نيسان 2016، وفي غرفة صفّ صغيرة؛ اصطفّ ثلاثةُ أطفالٍ قرب الجدارِ يحاكون بأيديهم عمليّة دقّ المسامير، وعلى الجدار المقابل فريقٌ آخر من المنهمكين في الدّهان المُتخيَّل؛ يحرّكون أذرعَهم من الأعلى إلى الأسفل، وما إن تقف لتراقب فريق البناء الفعّال حتّى يطلبَ منك طفلٌ أن تبتعد؛ فأنتَ تسدّ طريق عربته وهو يحتاج لنقل الطوب إلى الجهة المقابلة.
ذلك كان المشهد في صفّ "التمهيدي"بروضة سنابل الإيمان/ بيت إجزا في خضمّ تطبيق نهج عباءة الخبير؛ حيث اختارت ربيع موضوع البناء لأنّه يشمل الكثير من المهن، وقالت إنّها دمجت منهاج اللّغة العربيّة، والرياضيات، واللّغة الإنجليزية في مشروعٍ واحد، ولم تعد مضطرة للرّجوع للكتبِ مرّة أخرى.
بدأتْ ربيع في تطبيق نهج عباءة الخبير في موضوع البناء قبل أسبوعيْن من وصول المعلّمة هارديستي مع مديرها ريتشارد كيران من مدرسة وودرو البريطانيّة؛ حيث يُطبّق ذلك النهج في تدريس الموادّ كافة منذ ستّة أعوام؛ فاجتمعت الخبرةُ العمليّة الطويلة من "وودرو"، مع معرفة المربيّة ربيع الجيّدة بالأطفال وخبرتها المكتسبة خلال ثلاث سنواتٍ منذ التحاقها ببرنامج التكوّن المهني في مؤسّسة عبد المحسن القطّان.
تفاعل الأطفال
لعلّ المشهد الذي وُصفَ سابقاً يبيّن انغماسَ الأطفال في بناء منزلٍ متخيّلٍ، لكنْ ما الذي أوصلهم إلى هناك؟ وكيف تمّ تطبيقُ نهج عباءة الخبير؟
كان من الواضح أنّ الأطفال يألفون أدوات البناء ويعرفون معظمها، وذلك لأنّهم بدأوا بالتعرّف على صورها مع مربيّتهم، إضافة إلى أنّ ذوي بعضهم يعملون في النجارة أو البناء، وسبق أن رأوا ورش بناء حقيقيّة، فلم يكن الموضوع بعيداً عن بيئتهم، وما علموه جيّداً أيضاً هو أنّ عليهم بناء منزلٍ "للعمّ"، الذي لعب دورَه المعلّم ريتشارد كيران، وطلب منهم المساعدة ناظراً في عيونهم وقائلاً عباراتٍ مثل: "أنا أعتمد عليكم لإتمام المهمّة، شكراً، أنتم تأخذون وظيفتكم على محمل الجدّ، أنا أحتاج مساعدتكم وأعلم أنّكم الأفضل لإتمام العمل".
وبالفعل انخرط الأطفال في البناء وأخذوا مسؤوليّة المنزل على عاتقهم وطرحوا الأسئلة على "العمّ"كما سيفعل أيّ خبير: "كم لدينا من الوقت لإتمام المهمّة؟ وكم غرفة تريد؟ وهل تتوقّع وجود درجٍ في المنزل؟".
وبدأوا يفكّرون مع مربيّتهم ربيع وزائريْهم ريبيكا وريتشارد في ما يحتاجونه للبناء، ولم يخلُ الأمرُ من طرافة الأطفال بالطّبع؛ كاستنتاج طفلٍ أنّه وبما أنّ من يشكّل الحديد هو الحدّاد، فحتماً من يصنع البلاط هو "البلّوط" ... أو كامتعاض آخر حين قال له صديقه مازحاً إنّه سيلقي عليه بعض الإسمنت لأنّه نسي الخلّاط المُتخيّل دائراً.
وللدّلالة على نوع وعمق تفاعل الأطفال مع التجربة؛ قبل عمليّة "اللِّحام"، وقفتْ ريبيكا تُلبسُ كلّ طفلٍ زوج قفازّات مُتخيّلة في يديه، ليمرّوا بعدها على ريتشارد ليضع خوذةً على رؤوسهم من أجل احتياطاتِ السلامة، وفي وسط انشغال الجميع باللّحام يقف طفلٌ معترضاً لم يبدأ العمل بعد: "بس أنا ما لبست كفوف!".
دار نقاشٌ هامّ بين الأطفال والمعلّمين حين سئل "المهندسون": "إذا احتجنا أدوات وموادّ للبناء، من أين سنحضرها؟"، فأجابَ بضعة أطفالٍ: "سنشتريها"، إلى أن قالتْ طفلةٌ بحماس: "نحن سنصنعها"، وأعجبَ الأطفالُ بالاقتراح؛ لننتقل بذلك إلى عمليّة رسم الأدوات وإلصاقها على لوحةٍ بعنوان "صندوق الأدوات".
بعد أنْ تعرّف الأطفالُ على شكل الأدوات وأعادوا تخيّلها، وألفوا المهن المتعلّقة بالبناء، مكتسبين معرفةً ومفرداتٍ جديدة؛ حان الوقتُ لاستخدام الكتابة، فحسب طلب "العمّ"باشرت كلّ مجموعة من الأطفال بكتابةِ لائحة بالخطوات التي سيتبعونها، فبدأوا بتهجئة الكلمات وكتابتها: "خاء في أول الكلمة، شين، باء في آخر الكلمة... خشب".
ووسط الحروف؛ كان للأرقامِ مكانٌ أيضاً، فكانتْ ريبيكا تسألُ الأطفال مثلاً: "كم طوبة تحتاج؟"، فيقدّرون رقماً، ثم تأخذ منهم طوبة أو اثنتين وتسألهم مجدّداً كم طوبةً لديهم؛ وبذلك تمّ توظيف الحساب أيضاً.
إذاً، شملَ تطبيق نهج عباءة الخبير التهجئة والحساب والقصّ والرّسم والمحادثة والقدرة على التعبير، إضافةِ إلى تنمية الخيال وروح الفريق.
ومن المهمّ أيضاً أنّه عزّز ثقة الأطفال بأنفسهم وحسّهم بالمسؤوليّة، ومنحهم ميزة الابتكار؛ وبخاصّة حين صنعوا كلّ شيء بأيديهم، وحلّوا كلّ المشاكل التي كانت تواجههم سوية حين كانت تُخلق التوتّرات عمداً كجزءٍ من أعراف استخدام الدراما في التعليم.
ولم يظنّ الأطفالُ للحظةٍ أنّهم لن يستطيعوا إتمام الأمر، أو أنّ الإناث مثلاً؛ غير قادرات على جرّ عربة يتكدّس الطوب فيها، كما قد يظنّ الكبار أحياناً حين يحصرون المرأة في وظائف محدّدة، واستطاعَ الأطفال خلقَ عالمٍ جديدٍ بخيالهم.
عائلة "القطّان"
لم يكن الأطفال وحدهم من تعلّموا خلال هذه التجربة؛ فقالت المعلّمة هارديستي إنّ ورش العمل النظريّة حول "الدراما في التعليم"مفيدة جداً، ولكنّها ليست ذات قيمة إلا إذا ترافقت مع تجربةٍ عمليّة بين الأطفال، وذلك للتطوير على الأسلوب وتعديله؛ للوصول إلى رؤية شاملة، وأضافتْ أنّ نهج "عباءة الخبير"، بشكلٍ عام، أتاح لطلبتها خلال السنوات الستّ السابقة أن ينمّوا مهاراتهم في الكتابة، معزّزاً قدرتهم على السّرد.
واعتبرت هارديستي أنّ هذا التبادل والعلاقة الطويلة بين مؤسّسة عبد المحسن القطان ومدرسةِ "وودرو"يشعرانها بأنّها جزء من "عائلة القطّان"في فلسطين، وأنّها فعلاً تساهم في صنع فرقٍ في التعليم.
ومن جانبها؛ قالت ربيع إنّها لم تشعر بأنّ "أولادها" -كما تسمّيهم- يستمتعون ويتعلّمون بعمق إلّا حين التحقت ببرامج مؤسّسة عبد المحسن القطّان، وبدأت باستخدام الدراما في التعليم، وأضافتْ: "أول سنة استخدمت فيها الدراما كانت رائعة! تغيّرت كليّاً، كنت دائماً أستخدم اللّوح وأتّبع طريقة التلقين، والآن أستخدم الدراما في كلّ الدروس"، وما دفع ربيع للاستمرار في هذا النهج هو أنّ الأطفال يتذكّرون ما يتعلّمونه عبر الدراما ويرسخ في عقولهم، في حين ينسون أغلب ما يتم تلقينهم به.
اختلاف وتوافق
لا بدّ أنّ تجربتيْ المعلّمتيْن مختلفتان بين بريطانيا وفلسطين؛ فممّا لاحظته ربيع حين زارتْ المدرسة البريطانيّة العام 2013 هو أنّ أجهزة (IPad) متوفّرة للطلبة في غرفة الصفّ، بينما نادراً ما يتوفّر ذلك في المدارس والرياض الفلسطينيّة؛ وفي حين تعتبرُ هارديستي هذا الأمرَ محفّزاً إضافياً لإبداع المعلّم، ويتيح له أنْ يستخدم الفيديو والصور لينمّي خيال الطلبة؛ فإنّها تؤكّد أنّ عدم توافر التقنيّة لا ينتقص شيئاً من نهج "عباءة الخبير"؛ وتوافقها ربيع بالرأي، بل تعتقد أنّه وبغضّ النظر عن الأدوات المتوفّرة؛ فإنّ الأطفال يشعرون بمتعةٍ إضافيّة حين يرسمون كلّ شيء بأيديهم وكأنّه ملكهم.
قد يكون البعدُ الجغرافيّ كبيراً بين غرفتيْ الصفّ التي تعتاد كلٌّ من هارديستي وربيع التواجد فيهما، وربّما تختلفُ الأدوات المتوفّرة واللّغة المستخدمة، وتتباين خلفيّات الأطفال المعرفيّة والاجتماعيّة، لكن وكما تؤكّد المعلّمة هارديستي؛ فإنّ الأطفال- أينما تواجدوا- متشابهون في توقهم ولهفتهم للتفاعل؛ فقط حين تمنحهم التحدّيات المناسبة.