"لقد كتبت جملة جميلة على السبورة، عاقبتني المعلمة بأن أمسحها بيدي. هذه بداية علاقتي بالكتابة والتعليم وبالإصرار أيضاً". هذا ما تذكرته المربية، بيسان عابد، أثناء انخراطها في ورشة للكتابة الذاتية في سياق العمل المهني.
ورشة في الكتابة كسيرة للذات والمهنة، نظمها برنامج البحث والتطوير التربوي في مؤسسة عبد المحسن القطان، يوم السبت 11 من آذار الحالي، في الهلال الأحمر في البيرة، بحضور 45 مربية ضمن منتدى برنامج التكون المهني لمربيات مرحلة الطفولة المبكرة، وذلك بإشراف الباحثين في البرنامج مالك الريماوي وفيفيان طنوس.
تمحورت الورشة حول مفهوم القصة الذاتية والمهنية كسيرة حكاية دائمة تُحكى هنا والآن، يقدمها راوٍ عن شخص يحمل اسمه، حيث تدرجت الورشة من كتابة "الأنا"كما لو أنها معلقة في فراغ إلى كتابة حول "الأنا في العالم"، من خلال نقل التمارين من "أنا"منفردة إلى "أنا"في العالم، "أنا"في داخل المكان والزمان، وعلى علاقة مع الآخرين ضمن الحدث، الحدث بوصفه الوحدة الأساسية في بنية السيرة، ما جعل المربيات ينخرطن في عملية الكتابة على شكل تذكرات وعودات لأزمان مختلفة، ففي سياق المواجهة الدرامية مع "شخصية لا تعي أين هي ولا تحس بوجودها، لا تعرف من هي لأنها عاجزة عن ترتيب ذكرياتها، هي شخص يفقد ذاته، لأنه فقد قصته.
تتداعى ذكريات المربيات فتسرد: "أنا آية، ولدت في العائلة المسلمة الوحيدة في حي مسيحي في بيت لحم، ولدت على يد طبيب مسيحي عند آذان المغرب، وأطلق علي الطبيب اسم آية".
"جاء المخاض لأمي ليلاً، ولم أنتظر حتى تصل المستشفى، بل ولدت في السيارة، رفعتني زوجة عمي لأمي كي ترى المولود الذي ما زال متصلاً بالحبل السري: عيون واسعة، أنف كبير، جبهة عريضة، والأهم أنها رشا وليست رامي".
"كنت الطفلة الوحيدة التي جاءت بالخطأ، حملت بي أمي صدفة، وكان أبي يريدها أن تجهضني، ولكن أمي امرأة متدينة رفضت ذلك، بعد ميلادي نظر إليّ أبي وقبّل يدي وقال: هذه ستكون ست رجال".
تحولت الورشة إلى فيض من القصص، قصص حول الميلاد، حول البدايات، بدايات مختلفة من زمن ما ومكان ما، ومع آخرين، ولكنها أخذت تبنى كقصص ترى الذات ذاتها في داخل سيرورة سردية، وأخذت كل قصة تنتظم ضمن حبكة وتبنى حول ثيمة رمزية:
• "أنا ابنة الليل والوقت المتأخر، ابنة المفاجأة دوماً".
• "أنا المختلفة التي تلتقي فيها كل الاختلافات وتتعايش".
• "أنا التي تأتي بالخطأ، ولكنه خطأ يجد صوابه وأهميته دوماً".
تم تقديم نماذج من قصص معلمات كتبن قصصاً ونشرت في مجلة رؤى، استعملت كنماذج للتحليل لتوضيح ما فيها من مفاصل سردية وتحولات في مسارات العيش، للكشف عما في كل سيرة من انعطافات وتغيرات وانبعاثات ونقاط تحول.
"المربية بيسان عابد مربية صف "بستان"لتتفضل مشكورة"، لاستلام درع، وشهادة تقدير، أسمع هذه الجملة مع نهاية كل عام، وأصعد كل مرة إلى المنصة وأنا غير فخورة بما قمت به.
لم أطمح أن أكون معلمة لأطفال لا يعرفون من الحياة سوى أربع سنوات عاشوها في حضن دافئ. أطفال بحجم النمل لا يعرفون الفرق بين السين والصاد، ولا كيف يستخدمون ليفة الاستحمام ... أقول لأمي: كيف أصبح مربية صالحة لهم؟ أنا الفوضوية التي لم ترتب سريرها يوماً، وما زالت لا تتقن استخدام قشارة البطاطا بشكل جيد.
تلك القصة التي قدمت كنموذج على السيرة الذاتية كسرد تتخلله انعطافات وتحولات تجعل السيرة ليست مجرد أحداث، بل ولادات مستمرة؛ سيرة تبدأ من نقطة مأزومة، كيف لمربية فوضوية لا تجيد تقشير البطاطا أن تعلم أطفالاً لا يعرفون كيف يرتبون أسرّتهم؟ نقطة تطلق أسئلة القارئ وتجعله ينخرط في القراءة وفي بناء أفق بعيد من التوقعات.
اختتمت الورشة بنشاط عملت فيه المربيات ضمن مجموعات على قراءة السير الذاتية المتضمنة في ثلاث لوحات عالمية، سير صورت على شكل لوحات بصرية، قُرئت اللوحة الأولى كسيرة في الماضي؛ سيرة لحياة منقضية، وقُرئت الثانية كسيرة إنجاز باقية في الحاضر والمستقبل. أما الثالثة فقد بدت كسيرة خالدة جمعت بين الأزمان الثلاثة؛ زمن الماضي الذي تتذكره الشخصية في اللوحة، وزمن المستقبل الكامن في اللوحة كفن خالد، وزمن عملية الإنتاج التي يراها المشاهد في عيني الشخصية، ما يجعل اللوحة تنتج في حاضر دائم، وتحضر في كل زمن، كما لو أنها تنتج الآن. وهذه سمة كل كتابة؛ إنها عملية إنتاج لشيء يبقى ينتج كلما تمت قراءته.